المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

المهرج الذي أراد أن يبكي

08-05-2025


359 

المهرج الذي أراد أن يبكي

بقلم: عدنان الدوسري 

كانت أضواء المسرح الباهتة تتسرب عبر ستائر الغرفة الضيقة، حيث جلس نورمان أمام مرآة تحيط بها المصابيح ذات الأضواء البيضاء الباردة. انعكس وجهه في الزجاج العاتم، فبدا كصورة باهتة مرسومة على ورقة رطبة. أصابعه الطويلة النحيلة تلمس تجاعيد جبينه العميقة، تلك التي أخفاها طوال سنوات تحت طبقات سميكة من الماكياج الأبيض والأحمر.  

"هل ما زلتُ موجوداً؟" همس بصوت أجش، كحفيف أوراق الخريف الجافة.  

لم يجب أحد. فقط صوت مكيف الهواء القديم يئن في الزاوية كحيوان مريض.  

أمسك بقطعة الإسفنج وبدأ يمسح بها الألوان الزاهية عن وجهه ببطء، وكأنه يزيح قناع الموت عن جثة. تحته ظهر وجه رجل في منتصف العمر، شاحب، بعينين غائرتين تحملان أثقال سنين من الضحك القسري.  
"اليوم سأخبرهم بالحقيقة." قالها بصلابة مزيفة.  
صوت ضحكة مكتومة خرج من زوايا الغرفة.  
"أي حقيقة؟" سأله ظله على الحائط، متمدداً بشكل مشوه تحت الضوء الأصفر. "حقيقة أنك مجرد مهرج؟ أن وجودك لا معنى له إلا عندما تضحكهم؟"  
نورمان أطبق يديه على أذنيه. "كفى! لستُ دمية!"  
لكن الظل استمر في التمايل، ساخراً: "بل أنت أفضل دمية صنعوها. مهرج يبكي في الخفاء ويضحك في العلن. هذه هي مهنتك. هذه هي حقيقتك."  
خرج إلى المسرح. كانت الأضواء القوية تحرق عينيه، لكنه شعر بالبرد يتسلل إلى عظامه. أمامه، مئات العيون تتلألأ في الظلام، كأنها حيوانات ليلية جائعة تنتظر عشاءها.  
"أيها السادة..." بدأ بصوت مرتجف، "أريد أن أخبركم قصة..."  
"ابدأ بالدعابة يا نورمان!" صرخ أحدهم من الصفوف الخلفية.  
"نعم، أضحكنا! لقد تعبنا من العمل!" هتف آخر.  
شعر وكأن سكينا حاداً ينغرس في أضلعه. "لكن هذه المرة..." حاول أن يتماسك، "هذه المرة أريد أن أشارككم شيئاً من..."  
"من ماذا؟ من حزنك؟" قاطعته سيدة ذات صوت حاد، "دفعنا ثمن التذكرة لنضحك، لا لنسمع نواحك!"  
انفجر الجمهور في ضحك عالٍ، كأن ما قالته كان أطرف نكتة في العالم. وقف نورمان كتمثال من الثلج، بينما كانت دموعه الساخنة تنهمر على وجهه، تختلط ببقايا الماكياج، فتشكل خطوطاً سوداء على خديه كندوب غائرة.  
الستارة تغلق .
في غرفة الملابس، جلس أمام المرآة مرة أخرى. هذه المرة لم يحاول إزالة الماكياج. أمسك بعلبة الألوان وبدأ يرسم ابتسامة عريضة زائفة، كل ضربة فرشاة كانت كطعنة سكين.  
"هكذا تحبونني، أليس كذلك؟" قال للانعكاس في المرآة.  
الظل على الحائط أومأ برأسه راضياً. "أخيراً عرفت مكانك الحقيقي."  
عندما عاد إلى المسرح، انطلق في أداء أطرف مشهد كوميدي في حياته. الجمهور انخرط في ضحك هستيري، بعضهم كان يمسك بطونه من شدة الضحك، وآخرون يصرخون: "أكثر! أكثر!"  
نورمان كان يرقص ويقفز، لكن عينيه كانتا تشبهان فجوتين مظلمتين في جمجمة. في ذهنه، كان يصرخ:  
"انظروا إلي! أنا أموت هنا! أنا أختنق!"  
لكن كل ما سمعه الجمهور كان ضحكاته المصطنعة، وكل ما رأوه كان ابتسامته العريضة المرسومة بعناية.  
في نهاية العرض، عندما انحنى تحية، شعر بقطرة دمع ساخنة تسقط على يده. نظر إليها باستغراب، كأنها شيء غريب لا يعرف مصدره.  
من بين كل ذلك الجمهور، فقط طفلة صغيرة في الصف الأول همست لأمها:  
"ماما، لماذا يبكي المهرج؟"  
ضحكت الأم: "هذا ليس بكاءً يا حبيبتي، إنه جزء من العرض. "المهرجون لا يبكون."  
نورمان سمع هذه الكلمات، فاتسعت ابتسامته المرسومة أكثر، بينما كانت دموعه تزداد غزارة، تختلط بمساحيق التجميل، فتتحول إلى ألوان زاهية تسيل على وجهه كدماء قوس قزح.  
في تلك الليلة، عندما خلا المسرح، بقي نورمان جالساً على حافة المنصة، تتدلى قدماه في الفراغ. نظر إلى القناع الملقى بجانبه، ثم ألقى بنفسه في الظلام.  
لكن حتى في سقوطه، كانت يداه تلوحان في الهواء، وكأنه يؤدي حركة مضحكة أخيرة.
عدنان الدوسري 
الكويت