قسوة قلوب مؤمنة
18-08-2025
14
قسوة قلوب مؤمنة
بقلم: الدكتور محمد آفاق عالم
منذ أن اندلعت الحرب بين حركة حماس والاحتلال في السابع من أكتوبر العام الماضي، سمعت مرارا وتكرارا من أفواه كبار المسؤولين العرب ورؤساء التحرير في الصحف والمجلات وأصحاب الجبة والعمائم والواعظين من المنابر والمحراب أن حركة حماس حائلة دون الاستقرار والسلام في المنطقة ولولا هذه، لكانت المنطقة جنة تجري من تحتها الأنهار، ولكانت الحياة فيها بعيدة عن الرصاصة والقنبلة، والدم والدمار. وبشكل غير مفاجئ، عبر زعماء العرب إلى جانب نظرائهم في الغرب، طبعا، باستثناء البعض، عن قلقهم العميق إزاء هجمات حركة حماس، ودعمهم المطلق للاحتلال.
ومن المذهل للغاية أن الأراضي التي استهدفت حركة حماس ذلك اليوم، تقع في داخل حدود الأراضي الفلسطينية، حسب قرار مجلس الأمن 242، واحتلتها إسرائيل في وقت لاحق وضمتها إلى أراضيها بالتعاون مع أميركا وحلفائها في الغرب، كجزء من سياستها المستمرة منذ إقامتها على أنقاض أحلام الملايين وآمالهم.
إذن، لا بد من السؤال إما إذا كانت حركة حماس مسؤولة عما حدث من القمع والتشريد والمجازر والمذابح، في هذه البقعة من الأرض، في أواخر الأربعينات والعقود التي تلتها، بدون أية لحظة من الاستقرار والسلام بالنسبة للفلسطينيين، ومن الذي أجبر الشعب كله على العيش في المخيمات ومن نجا منها، بات إما في المنفى، أو خلف القضبان؟ ومن كان مسؤولا عن مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين الفلسطينيين في 16 سبتمبر 1982 الميلادي التي وصفها شاعر المخيمات إبراهيم صالح، المعروف بـ أبو عرب، بكلمات تالية:
قومي يختي شوفي الجثـــــــث المبعثرة
شوفي الجثث الموزعة على الطريق
شوفي الأطفال مسبحين بدمـــــــــــــــــــــهم
عم يرضعوا من صدر جثة أمــــــــــــــــــــهم
من سلب الأراضي والممتلكات الفلسطينية بشكل منهجي وتدريجي حتى لم يبق لهم سوى ما يعرف بـــــــــــــ "أكبر سجن مفتوح في العالم"؟ ومن يدمره يوميا لمجرد وجود الآخر الذي يريه وجهه القاسي والقبيح، كلما ينظر بعينيه؟ وهل كانت غارات الاحتلال على قطاع غزة في 2008 الميلادي نتيجة عن أعمال استفزازية على يد حركة حماس؟ لا، بل إنما كانت نقمة ضد الشعب الفلسطيني الذي اختارها ممثلة سياسية له على الرغم من مساع جبارة من قبل الاحتلال وحلفاءه من الغرب إلى إقناع الشعب كله للانحياز إلى السلطة الوطنية الفلسطينية.
إنه من سذاجة الأطفال الافتراض أن الاحتلال يقتل الأبرياء والأطفال والنساء يوميا، لمجرد فرض حق الدفاع عن النفس، بينما لا ينطق أحد، بل يصيبه الخرس عندما يطالب الشعب الفلسطيني بنفس الحق، أما الحقيقة فهي أن الاحتلال لا يحتاج إلى مبررات للقيام بالمجازر، ولتشريد الشعب كله والشيء الوحيد الذي يهمه هو استمرار سياسة التوسيع – توسيع الأراضي المحتلة – صدقوني أو لا تصدقوني بل هذه هي السياسة التي لم تتوقف ولو للحظة، منذ إقامة الدولة، بغض النظر عن التغيرات السياسية.
هل رأيتم متنمرا عندما كنتم في مختلف مراحل المدارس؟ انبرى معظمنا لواحد أو أكثر في حياتنا المدرسية، وإن لم يقابل بعضنا أحدا منهم قط، فلا بد من أنه سمع الأخبار بشأنه، فثمة أمر مشترك في كل تجاربنا وقصصنا وأخبارنا، وهو أنه يتمادى في تنمره ولن يتوقف حتى يعترض طريقه الأقوى منه، والاحتلال في شكله وأجزائه ليس سوى متنمر مفوض من قبل الغرب ولن يتوقف بنفسه أو عن طريق الإقناع بالمفاوضات، والطريق الوحيد هو إيقافه بالقوة كما اقترحه غسان كنفاني في روايته الشهيرة "عائد إلى حيفا": "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة".
وفي حين تحليل قضية فلسطين ودور حركة حماس فيها، يتجاهل الكثير من المحللين السياسيين المتكئين على الأرائك في مكاتبهم المكيفة أن حركة حماس ليست سوى علامة تلك الروح المناضلة التي لن تطمئن حتى تسترد كل ما فقدتها من العزة والكرامة، ومن الممكن قتل زعماء الحركة ونفيهم، وطردهم إلى نهاية الآفاق، ولكنه من المستحيل الاستظهار على روح المقاومة التي تم زرع بذورها في عهد الانتداب ومنذ ذلك الحين، ضحى مئات الآلاف من الأبرياء نفوسهم في سبيل إروائها بدمائهم، لمجرد التأكد من أنها ستصبح ذات يوم شجرة ضخمة عالية، قادرة على الانبراء لأعدائها مهما ازدادوا عِدة وعُدة.
مما لا شك فيه أن حركة حماس ستلعب دورها المقدر على المسرح، وحسبما يدعي الزعماء اليهود، ربما تختفي من المشهد، ومثلما حدث مرارا في الماضي، ستستخلفها حركة أخرى ذات يوم، ولكن المقاومة ستبقي وتستمر، أما نحن يا ذوي القلوب المؤمنة، هل لا تدمع أعيننا بالفوضى والدمار في الأرض المقدسة؟ هل لا تدمي قلوبنا بعد أن قتل حوالي مئة ألف من الأبرياء والأطفال والنساء؟ وهل لا نشعر بالألم حتى العظام، عندما يحاول العدو في نزع عضو من جسدنا؟ كيف ولا نقلق ونجن إلى حد المجنون بعد أن نقرأ هذه الآية: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"؟ وما شأننا بهذا القول لخاتم الأنبياء عن المؤمنين: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"؟
وإذا وجدنا أنفسنا مع الذين قست قلوبهم وهي كالحجارة أو أشد قسوة، لا بد لنا من أن نحاسب أنفسنا، ونذكر أن عدونا على عتبة بيوتنا، ولولا هؤلاء الغزاة الباقون من أبناء الشهداء الأولين في سبيل تحرير المسجد الأقصى، لسمعنا قرعا على أبوابنا، وأننا في بيوتنا آمنين، طالما لم تطرق أبوابنا، وهي إشارة إلى أن المقاومة في الأرض المقدسة لا تزال حية.