سلسلة التعريف بالأدب التركي (3) مادونا صاحبة معطف الفرو للكاتب صباح الدين علي
25-01-2025
108
سلسلة التعريف بالأدب التركي (3)
مادونا صاحبة معطف الفرو للكاتب صباح الدين علي
د. لؤي حاتم يعقوب
أستاذ اللغات الشرقية بجامعة أنقرة للعلوم الاجتماعية
تعتبر رواية (Kürk Mantolu Madonna) حسب الأحداث الزمنية ثالث الروايات وأكثرها شهرة، كتبها صباح الدين علي باللغة التركية في عام 1943م، وقد تناولت الأحداث بين تركيا وألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى عبر قصة مُزِجت فيها مشاعر الحب والوحدة والاغتراب التي وقعت بين شاب تركي وبنت ألمانية اختلطت أحداثها بين الحقيقة والخيال.
تُرجمت هذه الرواية إلى اللغة العربية بعدة تراجم منها؛ على يد المترجم جهاد الأماسي، وطبعت في دار أثر للنشر والتوزيع في المملكة العربية السعودية– الدمام، عام 2015 م، تحت 224 صحيفة. ومنها؛ على يد المترجمة مروة داغستاني والتي طبعت في دار مقدمة للنشر في تركيا- إسطنبول، عام 2020، تحت 236 صحيفة. ومنها؛ على يد المترجمة هبة الضاهر والتي طبعت في دار موزاييك للدراسات والنشر في تركيا- إسطنبول، عام 2220، تحت 197 صحيفة.
تبدأ الرواية بذكر شخصية "راسم" الرجل الموهوب بالقراءة والكتابة الذي كان يعمل في البنك وفقد وظيفته وأصبح يبحث عن عمل في شوارع أنقرة، وذات يوم يلتقي على سبيل الصدفة بأحد أصدقاء الدراسة القدامى "حمدي" والذي كان يعمل معاون المدير في إحدى الشركات فيطلب مساعدته في إيجاد عمل له، وبالفعل يجد حمدي لصديقه راسم وظيفة تتعلق بالاتصالات في نفس الشركة التي يعمل بها.
باشر راسم يومه الأول في العمل الجديد وهو ابن العشرين من عمره وسط جوّ مكتظ بالموظفين وكان شريكه في الغرفة رجلًا عجوزًا هادئ الطبع منطويًا على نفسه قليل الكلام لا يخالط أحدا يُدعى "رائف أفندي" مترجم اللغة الألمانية. وبعد أن تعرَّف عليه زاد إعجابه به وبأسلوبه وطريقة عمله وهدوئه حيث كان أقدم رجل يعمل في الشركة. وذات يوم مرض رائف أفندي ولم يأت إلى العمل وكانت الشركة بحاجة إلى ترجمة بعض الأوراق إلى اللغة الألمانية فقرَّر راسم أن يزور بيت رائف أفندي ليطمئن على صحته وبنفس الوقت يوصل له أوراق الشركة المراد ترجمتها. وبمجرَّد دخول راسم إلى بيت رائف أفندي فهم سبب انطوائه على نفسه ولماذا كان دائمًا مهمومًا بسبب مرضه المزمن وحالتهم المادية الصعبة والبيت المزدحم الذي فيه أكثر من عائلة.
جلس سام مع رائف أفندي وتناولا الحديث مع بعض وأعطاه الأوراق المراد ترجمتها، وكان رائف أفندي فرحًا جدًا بزيارة سام الأولى، وبعد زياراته المُتكرّرة تعرفا سامي على جميع الأفراد والأقارب الذين يقيمون في البيت وأصبحوا يعاملونه كصديق للعائلة بل وكأنَّه فرد منهم. وحين اِشتدَّ مرض رائف أفندي وساءت حالته وأيقن أنَّه لا يمكنه أن يجمع قواه ويعود للعمل في الشركة مرَّة أخرى طلب من سام أن يحضر له جميع حاجاته الخاصة في مكتبه الذي في الشركة.
يذهب سام إلى الشركة ليجمع مُتعلقات رائف أفندي، ومن هنا تبدأ القصة الحقيقية عندما يجمع سام جميع أغراضه ويجد من بينها دفتر الملاحظات المغطى باللون الأسود، وحين العودة إلى بيت رائف أفندي وهو على فراش الموت لتسليمه الحقيبة التي تحتوي على جميع أغراضه يطلب منه رائف أن يحرق الدفتر الأسود الذي كتب فيه جميع ذكرياته وما مرَّ به في حياته، فلم يفعل سامي بل وأصرَّ على قراءته وإقناعه بأنَّه سوف يستفيد من التجارب التي مرَّ بها سيَّما وهو في بداية حياته، قبل رائف أفندي طلبه على مضض وأخذ منه وعدًا أنه سيحرق الدفتر بعد قراءته. وبكلّ شغفٍ وشوقٍ يبدأ سام بقراءة هذا الدفتر ليتعرَّف على حقيقة هذا الرجل الهادئ القليل الكلام عديم الأصدقاء الذي انتابه الغموض والحزن طيلة فترة عمله معه.
تسترسل المذكرات بالحديث عن بدايات رائف أفندي منذ الصغر وحبّه للرسم حتى الكبر وأنه كيف لم يجد من يثق به ليصارحه بما يشعر به تجاه هذه الحياة أصدق وأوثق من الدفتر، وتبدأ نقطة التحوّل عنده حينما قرَّر والده أن يرسله إلى ألمانيا ليتمكن من تعلم حرفة صناعة الصابون. وبعد إخباره بذلك وهيَّأ له كلّ مستلزمات السفر حزم أمتعته خلال أسبوع وسافر بالقطار عن طريق بلغاريا حتى حطَّ في برلين واستقر في منزل مشترك وبدأ بتعلم اللغة الألمانية لتمكنه من الاختلاط وفهم المجتمع، وباشر بعدها بالعمل في أحد معامل الصابون.
وبعد مرور عام على مكوثه في ألمانيا أصبح رائف أفندي يتأقلم مع نسيجها إضافة إلى عمله في المصنع ورويدًا رويدًا يتعرف على طبيعة البلاد ويزور الحدائق والأماكن العامة والمختلفة. وذات يوم يذهب إلى معرض للفن الحديث في وسط برلين قد تمَّ الإعلان عنه بالصحف والإعلام ويشاهد اللوحات والصور الفنية التي بداخله بكلّ سرورٍ وتستوقفه لوحة أثارت إعجابه عن غيرها من اللوحات وهي مادونا ترتدي معطفًا من الفرو، وبقي ينظر إليها ويشبه عليها ويتخيل صفاء وجهها بتمعن وكأنها فريدة تتميز عن الآخرين حتى ختام المعرض.
لم تذهب هذه اللوحة من مُخيّلة رائف أفندي أبدًا وحتى في منامه، وأصبح يزور المعرض يوميًا للنظر إليها والجلوس أمامها ظانًّا أنَّ هذه المرأة المرسومة في اللوحة لا زالت حيَّة وأنَّه يوم من الأيام سوف يلتقي بها، ومن شدة إعجابه بها في أحد الأيام جاءته المرأة التي رسمتها وقالت له هل تعني لك هذه اللوحة شيئا أو تشبه شخصًا ما في حياتك؟ فأجاب رائف أفندي المرأة من غير أن ينظر إلى وجهها نعم أنَّها تشبه والدتي، وما كان سبب كذبه على المرأة إلا بدافع الخجل.
تستمرُّ الرواية بتسلسل الأحداث وبتحقيق الخيال الذي قام رائف أفندي بالبحث عنه في كلّ مكان حتى ينتهي به المطاف أنه ذات ليلة يخرج مع صديقة للتجول في أزقة برلين وفجأة تمرُّ من جانبه اِمرأة ترتدي معطفًا فينظر إليها بتمعن دون أن يتكلم معها فيشبهها بمادونا التي في اللوحة وتلك اللحظة لم تسعه الفرحة بأنَّ ما كان يفكر به كان صحيحًا. وفي اليوم التالي جاء إلى نفس الزقاق على أمل أن يراها مرة ثانية ويتحدث معها، وأخذ ينتظر ساعات وبالفعل تأتي وعلى كتفيها معطف فرو ولحقها حتى دخلت ناديًا ليليًّا فدخل بعدها، ظهرت المرأة التي كانت تعمل في هذا النادي على الجمهور وهي تعزف الكمان وتغني بعض الأغاني.
بعد ذلك تأتي هذه المرأة وتجلس على طاولة رائف أفندي مُبتسمة وهو لا يصدق ما يرى أمام عينه بأنَّها نفس الصورة الحقيقية المتجسدة للمرأة مادونا صاحبة المعطف التي رآها في اللوحة، وقالت له هل لا زلت غضبان مني؟ فدُهِشَ رائف أفندي من سؤالها هذا ومن سماع صوتها وكأنما يعرفان بعضهما منذ سنوات، وبعد أن استرسلا بحديثهما عرَّفته بنفسها وأخبرته أنَّ اسمها ماريا بودر وهي المرأة التي رأته وسألته في المعرض عن سبب تركيزه الشديد والوقوف بذهول أمام لوحة مادونا، فلا زالت تذكرة على الرغم من أنَّ رائف أفندي لم ينظر إلى وجهها في تلك اللحظة. بعد ذلك اليوم، بدأت الصداقة بين ماريا بودر ورائف أفندي، وأصبحا يجتمعان كلّ يوم ويتجولان ويزوران الحدائق ومختلف الأماكن والمعارض، وبعد مُغامرات كثيرة أُغرم بها رائف أفندي ووقعا في حبّ بعضهما البعض.
ومرَّت الأيام ورائف أفندي وماريا يقضيان أجمل اللحظات حتى جاء مكتوب من تركيا إلى رائف يخبره بأنَّ أباه قد مات وينبغي عليه أن يعود إلى تركيا بأسرع وقت، حزن كثيرًا وبدأ يفكر ماذا يفعل بين الرجوع إلى تركيا وتولي مصانع أبيه وثروته وبين الجلوس مع حبيبته ماريا؟ قرَّر بعدها أن يعود إلى تركيا ويستدعيها للعيش معه في أقرب وقت، أمَّا ماريا بودر فحينها قرَّرت ترك برلين والذهاب إلى بيت أمها الواقع في إحدى قرى ألمانيا على أمل انتظاره.
رجع رائف أفندي بعد مكوثه عامين في برلين إلى تركيا وقريته هاوران ولم يجد ميراثًا ولا نقودًا سوى تدهور الوضع والبحث عن مكان يعيش به هو وأمه التي بقيت له من عائلته وأنَّ أصهاره قد أخذوا وسيطروا على جميع ما تركه والده إلا القليل. ورغم هذه الصعاب إلى أنه لم يقطع التواصل مع ماريا بودر عبر الرسائل البريدية ومعرفة أخبارها بل كان على أمل دائم أن يحصل على نقود بسرعة ويستدعيها لتعيش معه في تركيا، وكانت ماريا تبادله الرسائل ذاتها أيضًا حتى أخبرته ذات مرَّة بأنَّه إذا عاد إلى ألمانيا سيسمع منها خبر مفرح جدًا، ولانشغاله بأمور الحياة وجمع المال لم يستطع أن يعرف ما طبيعة هذا الخبر وظل يلاحق أفكاره.
وفجأة بعد أن جمع رائف أفندي قواه وعمل البيت الذي كان يتخيل فيه العيش مع ماريا تنقطع عنه أخبار ماريا تمامًا ولم تعد الأجوبة على رسائله تأتي من ألمانيا ورغم المحاولات العديدة لمعرفة أين هي ولماذا لم تتراسل معه إلا أنه لم يتوصل إلى شيء واُغلقت جميع الطرق أمامه، وعاد إلى حالة العزلة واليأس والوحدة التي كان يعيشها قبل تعرّفه على ماريا. وعند انقطاع أمله بوجود ماريا بودر وجلبها إلى تركيا، تزوج رائف أفندي وأنجب أطفالًا وحصل على وظيفة ولكن كلّ ذلك وبعد مرور سنوات عديدة لم ينسه شعوره وحبه في الماضي لماريا بودر الشخص الوحيد الذي وثق بها في حياته والتي انقطعت أخبارها فجأة ولم يعرف أين هي وما حلَّ بها.
وبعد مرور عشر سنوات وأكثر يلتقي رائف أفندي في أحد شوارع أنقرة بالسيدة فراو دوبكة التي تعرَّف عليها في ألمانيا ومعها بنت صغيرة، فسلمت عليه وجرى بينهم حديث مطول أثناء ذهابها لمحطة القطار قبل عودتها إلى ألمانيا وأخبرته أنَّ ماريا بودر قد أصيبت بمرض مزمن وتوفيت قبل عشر سنوات وأنجبت هذه الطفلة قبل موتها، وكلّ ما تعرفه عن والد الطفلة أنَّ أباها تركي الأصل جاء إلى ألمانيا وبقي بها قليلًا ورحل. علم بعدها رائف أفندي سبب انقطاع تواصله مع ماريا وأنَّ هذه الفتاة الصغيرة التي رآها خلال دقائق محدودة وهي تسير أمامه ولأول مرَّة على سبيل الصدفة هي ابنته.
يعيش بعدها رائف أفندي بحسرة اللحظات التي لا تفارقه يومًا لترك ماريا وبتأنيب ضميره الذي فكَّر مرارًا من أنَّ ماريا لربما تخلت عنه وذهبت مع شخص آخر دون علمه وتركته، وعليه يقرّر الاستمرار بالعيش في هذه الحياة حزينًا منكسرًا منعزلًا عن جميع الناس كجسد بلا روح.
ومن خلال هذه الكلمات تنتهي المذكرات التي كتبها رائف أفندي في دفتره والتي لم يطلع عليها أحد سواه وسام، وفي اليوم التالي يأخذ سام الدفتر ذا الغلاف الأسود ويذهب إلى بيت رائف أفندي لزيارته وليحرق الدفتر أمامه كما وعده قبل أن يطلب منه قراءته. فلما ذهب إليه وجد الصياح والعويل سائدًا في بيته فعلم أنَّ رائف أفندي قد توفي وفارق الحياة مع الألم الذي حمله منذ عشرات السنين من غير أن يعرف به أحد.