قراءة في رواية دولة شين لـ وفاء عبد الرزاق
09-03-2025
67
قراءة في رواية دولة شين لـ وفاء عبد الرزاق
بقلم:أ.م.د. محمد جري جاسم النداوي/العراق
الملخص:
تستند رواية "دولة شين" في عالمها الروائي على الفنتازيا لتأكيد فكرة ذات أبعاد فلسفية وقيمية متنوعة، يتم طرحها بكل جرأة وعلى وفق فنية عالية، من ترميزات مضببة، وتقنيات متعددة، وإيديولوجيات مضمرة في أنساق خطابها السردي، مؤداها أن الشيطان أول ثائر كوني، لم ينزل إلى الأرض ليغوي البشر؛ بل ليثبِّت البراهين على صحة دعواه ورؤيته التي واجه بها كريم/ملك الجبل وسيد الكون.. هذا من جهة، ومن جهة أخرى حاولت الرواية معالجة هذه الفكرة مخترقة التابو الثلاثي (السلطة، الدين، الجنس) بكل قوة، ذلك التابو الذي يُخلَع عليه رداء القداسة والتحريم والمنع، فجاءت رواية "دولة شين" لتعريته من ثوب القداسة المُصطَنَع، ولتكسر شوكته، وتكشف إيديولوجيته الرامية إلى خداع الشعوب بوهم طالما تَسَيَّد على عقولها لأزمان.. لذلك جاءت هذه القراءة لتلقي بالضوء على الأبعاد الثلاث لذلك التابو، ومن خلال ثلاثة مباحث.
المبحث الأول/ تابو السلطة
يتحدد هذا التابو في عمليات التدمير والسحق أو التشييء أو الإقصاء من قبل السلطة لفئة جماهيرية محددة أو أفراد ضمن مجتمع ما، وإبان ظروف راهنة، معتمدة في ذلك على سبلٍ معينة وإيديولوجيات قادرة على تحقيق أهداف سياسية، من شأن ذلك كله إحداث تغيير أو تحويل في مجرى حياة تلك الفئات المقموعة سياسياً، أو إقصاء وجودهم؛ بمعنى آخر ((اللجوء إلى القوة ضد الأشخاص [...] لإحداث تغيير في وجود الأفراد في المجتمع، وربما في مجتمعات أخرى))(2).
إن القهر السلطوي عندما يكون موجهاً ضد الأفراد أو الجماعات التابعة والخاضعة يُعدُّ من أعنف مظاهر القهر السلطوي وأشدها وطأة على حياة الأفراد، كونه الأقدر على سلبهم متعة الحياة الهانئة، ولكونه صادراً عن قوى أكبر وأعنف ليس بمقدور أي فرد ردعه. وبذلك غالباً ما يؤدي إلى فعل التهديم في حياة الأفراد المضطهدين، أو تدميرهم، أو على الأقل اغتيال آمالهم وتطلعاتهم المستقبلية.
ولابدَّ من التأكيد أن هذا الاضطهاد السياسي والقمع السلطوي للأفراد يرتبط بدرجة كبيرة بالواقع السياسي والاجتماعي وحتى الأسري؛ ذلك أن تلك الأفراد جزء من ذلك الواقع، كما أن الأفراد الذين يعيشون تحت ظروف الحرب أو الاحتلال أو الاضطرابات السياسية من المؤكد أن يكونوا الأكثر عرضة من غيرهم لأشكال العنف السياسي الموجه ضدهم، فوجودهم مهدد بالفناء، وأرواحهم معرضة للاغتيال، وطموحاتهم وتطلعاتهم مقتولة مسبقاً، أو مخنوقة تماماً. ومن جانب آخر فإن ((ظاهرة الدولة السياسية اصطنعت لنفسها طوال تاريخها وجهاً خاضعاً لنوع من السادية))(3)، وإن هذه السادية ماهي إلا رد فعلٍ لما واجهته الدولة وتواجهه من تحديات خارجية، واضطرابات سياسية تؤكدها تحالفات ضد وجودها..
ولمّا كان الأديب جزءاً من ذلك الواقع فقد حاول من خلال نتاجه الأدبي أن يرسم تداعيات ذلك الواقع على نفسه، وحساسيته تجاهه بشكل فني قادر على استيعاب الأزمة، لذلك كانت رواية (دولة شين) قد حاولت الإفصاح عن ذلك وهي تتعقب حياة شخصياتها التي باتت مسحوقة تعاني انهزاماً في واقعها المُتَخيَّل، جرَّاء ما تقاسيه من اغتراب روحي كان نتيجة طبيعية لواقعها المعيش بكل تناقضاته وظلمه، تظل تعيش تلك الشخصيات انكساراتها وحطامها الذي ورثته من طفولتها المقفرة إلا من ذكريات لا تتجرع فيها غير الألم، لتكون أكثر تشتتاً وتشظياً عندما تكبر، فشخصية أنور، وهو إزاء اشتهاءاته الجنسية المحرومة والمحمومة التي يقتل العوز تلبية جموحها يستذكر طفولته وحرمانه: ((استذكر طفولته ولعبه حول شجرة التوت بالليل، وكيف كان يرتدي الملابس الرديئة، تجلبها إليه أمه من الأسرة التي استأجرتها للخدمة. كانت أغلب الأزرار مقطوعة، مما يجعل أمه تقطع زر القميص الأخير وتخيطه بدلاً عن الزر المقطوع ليستر صدره وبطنه. كان يغتسل بماء النهر، ويشرب منه مع الصبية في مثل سنه [...] أبوه رجل طيب، وأمه تجهد نفسها كثيرا كي تربيه أحسن تربية، وتكرر عليه كلامها كلما طلب منها ترك العمل في البيوت:
- ابني.. أريدك أن تحيا حياة كريمة.
يضحك في سره عن الحياة الكريمة التي تتصورها أمه في ارتداء ملابس بالية ولقمة شحيحة)).
ومثله ايضا بشرى التي تفقد عائلتها بسبب سيارة مفخخة فيتكفلها إمام المسجد الذي يمهد لها الطريق إلى الرذيلة منذ طفولتها: ((دفء الحياة لم يعطها فرصة للبقاء معها حتى تكبر وتتربى بعز أسرتها، التي ابتلعتها حادثة سيارة مفخخة)). شخصيات الرواية تعاني تأزما هوياتيا، جرّاء ما تعيشه من تناقضات الواقع المعيش بكل تلوناته وارتهاناته عليها، مما يترك تلك الشخصيات تعاني غربة مجتمعية في عدم قدرتها على الاندماج كليا مع واقعها الذي تشعر تجاهه بالسخط وعدم الرضى، يترك ذلك انطباعاته على الشخصيات التي يبدو عليها التأزم والتشظي الداخلي.. غير أن شخصية واحدة في الرواية تمكنت من ضرب مركزية السلطة، وتحطيم ذلك التابو والثورة عليه، وهي شخصية (شين) بطل الرواية ومحور الأحداث التي جاءت أكثرها من خلال عينيه، فالشخصية (شين) تمرد على قرار (كريم) صاحب السلطة والقوة، ورفض أن يكون في مرتبة تالية لـ(نديم) لذلك أخذ على نفسه أن يقدم البراهين على أن ذلك الرفض له مبرراته، ولم يكتفِ بذلك فقط، بل أسس له دولة كاملة بوزراء وإداريين وغيرهم، أي إنه أسس له سلطة توازي سلطة كريم: ((خلال فترة بحث "شين" بين الأبواب، كان" أنور" يبعث الرسل إلى الديار القريبة من صحرائهم، ويبعث معهم المبشرين بمذهبهم الجديد ويطلب منهم تأييداً لإنشاء ((دولة شين)) رفع "أنور" يده مشيرا إليهم بالصمت والهدوء:
-سنجعل الحكم لمدة أربع سنوات، بعدها نعمل انتخابات وينتخب الرئيس والوزراء وزعت المناصب كالآتي بلا كلمة "شين"، فقد انتصر الشياطين وانتهينا من الأمر:
الرئيس" أنور" ونائب الرئيس "أمير" رئيس الوزراء "باسم" نائب رئيس الوزراء "إسراء".
وزير الدفاع "برهان". . نائب الوزير "توفيق.......إلخ)). هذا التطور في مجريات الأحداث الذي انتج سلطة جديدة، ودولة جديدة تسيَّدت على عنوان الرواية ككل، وباتت هي محور الأحداث ومركزها يحيل على إيديولوجيا رامية إلى ضرب المركز من جانبين، أولهما: أن شخصية شين في محاولته الانفلات من القيود التسلُّطية أو السلطوية لدولة (كريم) قد عَمِد إلى تنظيم نفسه، واستثمار جهوده لتأسيس جماعة تولاها بالرعاية والعناية لتأخذ على نفسها إنشاء دولته، وبمحض إرادة منها، ومن غير إجبار، ذلك أنه قد وثق بكونها القادرة على تحقيق أهدافه، طالما أن مبادئها وقيمها تتفق مع مبادئه وقيمه.. وفي الوقت ذاته، كان تأسيس تلك السلطة قائم على إخضاع وإذلال من كان سبباً في طرده من مكانته التي كان عليها في مملكة "كريم" لذلك تكون سلطة "شين" على وفق هذه الحالة أداة من أدوات الإخضاع والإذلال لمركزية سابقة هي مركزية كريم ونديم. ثانياً: إن السلطة المنعقدة هي سلطة لدولة شياطين بشرية، برئاساتها وبرلماناتها ووزرائها، كلهم شياطين بشرية، وهذا الطرح بحد ذاته هو اختراق لتابو السلطة القائمة في دول الأرض، وضرب لمركزيتها، فرجالات السلطة على الأرض هم محكومون بظلال شيطانية توجههم لوجهات شيطانية. هذه الرؤية تحقق تصوراً وضيعاً عن السلطة؛ كونها سلطة خاوية مبنية على الشيطنة والبعد عن كل ما هو إنساني في أحكامها وقوانينها ورؤاها، وحتى رجالاتها، فضلاً عن أن تلك الدول الشيطانية تضع قوانينها من غير أن تدع مجالاً كافياً لحقوق أفرادها الذين في وضع الخضوع، وبذلك تصبح هنالك حالة من عدم الاستقرار، تترك الجميع يسعى إلى العنف لتحقيق غاياتها المشروعة أو غير المشروعة.
المبحث الثاني/ تابو الدين
تُعد المنظومة الدينية من أكثر المؤسسات تدخلاً وتأثيرا في حياة الأفراد والشعوب ككل؛ كونها توفر لهم الملاذ الروحي الآمن، وتحقق لهم الاستقرار في حال تم التماهي مع رؤاها وأعرافها، وتم الانصياع لسلطتها التي توازي بشكل كبير أي سلطة أخرى؛ كون السلطة الدينية تحمل سمة القداسة والبعد الكوني والغيبي الذي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزه أو التعالي عليه. وبذلك تصير قناعات المرء المذهبية جزء من هويته، التي تكون غير قابلة للانفصال بأي شكل من الأشكال().وقد تعزز هذا الانتماء بشكل واضح، وصار أكثر حساسية من ذي قبل عقب انهيار القومية العربية بعد تلاشي رموزها القوميين، فأصبح الدين الملاذ الرئيس للهوية في العالم العربي تحديداً(). لا سيما بعد أن أخذت المؤسسة الدينية على نفسها استثمار هذا التأزم والانشقاق من أجل تعزيز وجودها، في مرحلة جديدة لاستقطاب الأفراد حولها، وتأكيد حضورها الموازي لأي نظام سلطوي حاكم، فصارت المؤسسة الدينية إثر ذلك منظومة من الأفكار والإيماءات والأعراف المنظَّمة، تخلع عليها سمة القداسة التي تمنع عنها أي سبيل للمناقشة أو التعديل، مهما كانت تلك الأفكار خطيرة، أو منافية للعقل والطبيعة. وبذلك يكون الخوض في مسائل الدين من أخطر المحظورات على الكاتب، حتى لو كان متمكناً من أدواته المعرفية والفنية؛ وذلك كي لا يوصم بالكفر والإلحاد.. غير أن رواية دولة "شين" حاولت أن تخوض في فكرة كونية تتسم بالحساسية نوعا ما، وهي مسألة بدايات خلق البشرية، واختيار الإنسان كي يكون خليفة الله، ليتم تسليط الضوء بقوة على أن قضية الاختيار هذه لم تكن صائبة، على الأقل من وجهة نظر "شين"/الشيطان الذي جمع الأدلة ودوَّن البراهين لإثبات وجهة نظره القائلة إنه خير من نديم/الإنسان، وكانت تلك الأدلة قد جُمِعت من تلك الأبواب الاثنتي عشرة، التي أرته مدى طغيان الشياطين البشرية وظلمهم لبعض، حتى أن شين نفسه لم يتمكن من تحمل ما يراه من بَغَي وطُغْيان وجَور وعُدْوَان، فيتضرع إلى الله من هذا كله: ((لم يعرف إن كان يتضرع للرب أم إلى شخص آخر. . لئن تذكر أسماءه الحسنى، مثل شمس ساطعة، فما دامت الأسماء موجودة أين صاحبها؟)). وهو في سورة هذا كله، يظل فاقداً للأمل في ما يراه، مما يقض عليه مضجعه، فيهيم على غير هدى، متسائلاً في نفسه: ((سار "شين" على غير هدى تلك الليلة، وقد تضخمت لديه الخطيئة. . يتساءل أين الرب من هؤلاء، وأين العقاب؟ !هل الإله الكبير راضٍ بما يحدث؟ !)). ويتضخم لديه الألم والتساؤل في الوقت ذاته، ليتحول إلى شك بوجود الله من كل ما يحدث عند البشر من جور وظلم ورذيلة: ((كل شيء هو ظل "الله" على الأرض، فأين ظله! لم أجده في هذا المّد الصحراوي. . أين ظلك يا رب الأكوان؟ أين ظلك؟ )). تحاول الرواية ضرب هذا التابو وتحطيم مركزيته، وكشف الستار عن قدسيته الواهمة والواهنة، ولكن هذه المرة من جهة أخرى، وذلك من خلال رموز المؤسسة الدينية التي تلوثت بالرذيلة والزيف، تمثَّل ذلك بإمام المسجد الذي تكفَّل بالطفلة بشرى التي فقدت عائلتها كلها، ولم يتبقَ لها أحد غير الله: (( قرر إمام المسجد احتواءها وتربيتها مع أسرته في دارهم. لم تتركها الحياة تمتلك نفسها، منذ اللحظة الأولى لوعيها شعرت بشيء غريب يخترقها، يد الأب تغوص في أحشائها بأصابعه في المرة الأولى، ثم استفحل الأمر حتى تعرفت على ما لا تعرفه بالضبط. هل هذا طبيعي! هل كل البنات يحصل لهن ما يحصل لها!. لقد كان لها أب، والآن لها أب، أب مختلف عن كل الآباء، جاء من قرية نائية الى المدينة، لا أحد يعرفه من أين، ولا تعرف هويته سوى أنه إمام مسجد جديد. لكن الأيام أفصحت لها عن سِّره وقتما القي القبض عليه متلبسا بالدعارة في المسجد، بعد انتهاء المصلين)). من أجل ذلك يتضح محاولة الرواية إماطة اللثام عن الزوايا المعتمة لمؤسسة تحمل من القداسة والتبجيل الشأن الكبير في المخيلة الجمعية للإنسان العربي بشكل خاص، فتتولى مهمة التعرية لهذه المؤسسة، وتسلط الضوء بقوة على كل تناقضاتها وارتباكاتها، من أجل زعزعت الوعي الواهم لمسألة التقديس الأعمى للجماعات الواقعة ضحايا لفعل ذلك التقديس والإجلال غير المبرر.
المبحث الثالث/ تابو الجنس
تُعَد ثيمة الجنس من أهم القضايا التي كانت وما زالت محوراً مهما من المحاور التي اهتمت بها الرواية، على الرغم من كونه أحد أكثر المحظورات خطورة عند الكاتب العربي تحديدا، جرَّاء ما يثقل كاهله من قيم وأعراف تحرم عليه الخوض في هذه القضايا ولكن بعد الثمانينات من القرن الماضي تمكنت كتابات روائية من اقتحام هذا التابو واختراقه إلى حدٍّ بعيد، فصارت تلك الكتابات محاولات لاختراق الممنوع والتمرد عليه، فأخذ بعض الكُتَّاب على عاتقهم جعل هذه القضية محوراً أساسياً لمجمل كتاباتهم مهما كانت وجهات النظر والرؤى الفلسفية لطرح هذه الثيمة، ومنهم من يجعلها واحدة من قضايا الحياة الواقعية التي يريد تسليط الضوء على تناقضاتها واخفاقاتها. غير أن رواية "دولة شين" قد عمدت إلى توظيف هذه الثيمة بطرح جديد، حينما ربطت الجنس بقضيتين حسّاستين تماما، يُعد الخوض في تفاصيلهما من المخاطر والمحاذير، إلّا لمن تمكَّن من أدواته الفنية والفلسفية، وذلك حينما تم حَبك هذه الثيمة مع قضيتي الطفولة والعنف، وارتهانات ذلك الحبك الثلاثي على مستقبل الشخصيات داخل حيزها الروائي المُتَخَيَّل، لتلقي بالضوء على مأساة الواقع الذي يقتل الطفولة في مهدها، ويخنق البراءة فيها، ليحولها إلى كائن شيطاني يروم الفتك بالبشرية من أجل الثأر لماضيه ولكينونته التي كانها، وبذلك برزت رواية "دولة شين" بما تمتلكه من سمات فنية لاستيعاب التجربة وللتعبير عن تداعيات مرحلة الطفولة التي تم هتكها، لتشكلها في النص السردي بصورة تحمل ترميزاً قاتماً لتحطيم كل الثوابت والتابوهات التي أسست لاغتيال الطفولة، ذلك أن الطفولة ((ليست مجرد مرحلة عمرية تمر بها الشخصية، بل مستودع ذكرياتها التي تنهل منها بين الفينة والأخرى، ما يبقي الطفل الغافي في داخلها نابضا بالحياة، ليرسم لها عالما جديداً له سماته الخاصة المتحققة بإسقاطات الطفولة الغائبة الحاضرة [...] فكان الواقع المُستعاد بجزئيّاته الأليمة والمفرحة سبيل اكتشاف الذات بصيغة ما، والدليل أيضاً على غربتها الآنية في ذلك الواقع)) المضني والمليء بالرذيلة حد النخاع، فشخصية "درية" في رواية "دولة شين" تتعرض لنوع بشع من القتل لطفولتها وبسلاح الجنس من أبيها الذي يتحول إلى أبشع كائن ممكن أن يكونه مخلوق: ((بدأ بطن "درية" يكبر شيئا فشيئا، مما جعلها تتهرب من الذهاب إلى المدرسة. . إنما مشرفة الصف عرفت بذكائها وفطنتها أن لهذه الطالبة أمراً تخفيه. . فتقربت منها مثل أم تحاول احتواءها. . حين طمأنت "درية" لمعلمتها أخبرتها بتفاصيل الحكاية، وأعلمتها بأن أختها تعرف كل شيء. وأن أباها يتحرش بابنته أيضا، ويهددها بمصير مثل مصيرها.... إنه القتل، قتل الطفولة والبراءة)). أما "بشرى" التي تم التطرق سابقا إلى بدايات انتهاك براءتها من قبل إمام المسجد، تتحول إلى مومس وقاتلة أيضاً، لا سيما لأولئك الملتحين المتلونين بالدين: ((من وقتها صار الساطور هويتها الجديدة، الهوية المفقودة التي كانت تبحث عنها وتطلبها من الحياة. أي شيطان تلَّبسه ذلك الكافر حين شج رأس رضيع بالساطور قرب طفلة لا تعرف غير براءة الحياة؟ هنا بداية "بشرى" وهنا ستكون نهايتها)). من هذا الاقتباس تتجلى بوضوح محنة أخرى تم عقلها بهذه الثيمة، وهي محنة التلبيس الهوياتي التي يتم نزعها على الشخصيات المرهقة مجتمعياً، فتتقولب بقالب هوياتي يتيح لها الإحساس بالرضا ولو بشكل وقتي، وفي الوقت نفسه يمنحها ذلك التقولب قناعة بالثأر من حيِّز الذي أسهم في وأد حياة كانت من الممكن أن تحياها بشكل طبيعي. ومثل بشرى "ذياب" الذي ينتهك أبوه طفولته بالجنس أيضا، ويحوله إلى إنسان مُبتَذَل وضيع، إلى أن يثأر من واقعه المرير، ليختم دوره في الرواية بإحراق أبيه. من أجل ذلك يمكن القول أن توظيف ثيمة الجنس في رواية "دولة شين" لم يكن حضورها تعبيرا عن التحرر- تحرر الرجل و تحرر المرأة؛ بل هو محاولة جادة لخرق ذلك التابو، وتعرية الواقع المعيش بتناقضاته وسلبياته التي تم تسليط الضوء عليها من أجل تحدد موقفاً من ذلك كله، وليس مجرد النقل الوفي له.
الخاتمة:
• تجلت قضية ضرب مركزية التابو، لاسيما الديني، في صورة التحدي الذي قامت به الشخصية الرئيسة في الرواية/شين، فمرة نجدها تحاكم السماء، ومرة تلومها على ما تتعرض له البشرية من عناء ومظالم، ومرة ثالثة تكفر بوجودها.
• كانت الشخصيات في الرواية عينة البحث، في حالة دائمة من التمرد والرفض، مما أسهم في تحقيق جماليات تشكيلها، وفي الوقت نفسه، جعل منها ذلك التشكيل رموزا تشفيرية تحمل إيديولوجيات تم تمريرها في أنساق النص الروائي بشكل غير مُعلن.
• كان هنالك تغير في موقع الراوي الذي أتقن رصد تحركات شخصياته التي يتموقع فيها أو معها، وكان لذلك التغير أثره في أن يبدو الرواي أو الصوت متماهيا تماما مع أحاسيس شخصياته، حتى أنه كان أمينا في ترجمتها، فمرة يأخذ موقع "شين" فيترجم سطوته وثورته بوجه كريم، وتغطرسه وعناده وقوته، ومرة أخرى يتخذ موقع شخصية أخرى كشخصية "أنور" بضعفه وازدواجيته وانسحاقه داخلياً وحتى شبقه وتلذذه بالرذيلة، وموقع ثالث مع بشرى الطفلة البريئة التي تحولت إلى مومس جرَّاء القهر المجتمعي وارتهانات الأقدار... ومن ذلك التموقع للراوي تتأتى أهمية اللعب التقاني للتبئير السردية ومدى التفنن في رصد مشاعر الشخصيات وترجمتها بكل حرفية