المنظمة العالمية للإبداع من أجل السَّلام/ لندن

فلسفة الألوان عند الشاعر الحُلِّي عبد الهادي عبّاس

07-04-2025


63 

فلسفة الألوان عند الشاعر الحُلِّي

عبد الهادي عبّاس

قصيدة (صورةُ أبي) ديوان(او هكذا هي العاصفة) إنموذجا..

بقلم: حسين علي عوفي البابلي

 

توطئة

ــــــــــ

    انطلاقا من حقيقة العلاقة الوطيدة بين الألوان ومدى تأثيرها وبطرق شتى، لاسيما وان الألوان حاضرة حولنا وفي كل مكان بدءاً من الوان الطبيعة والملابس والأثاث والبيوت والسيارات... وماتضفيه علينا من تأثير في المزاج والنفس والسلوك.

فالألوان الدافئة وماتثيره من إيجابية تختلف عن الألوان الباردة او المُحايدة او الساطعة، وتلك حقائق ملموسة من باب أن اللون اداة إتصال قوية يمكنها إحداث تأثيرات عملية مباشرة ومزاجية وسلوكية، وهنا نشير إلى حقيقة أخرى، ألا وهي أن ليس الجميع يتفاعل مع اللون بنفس الكيفية، وذلك بسبب ارتباطات شخصية او ثقافية بالألوان، ولكن هنالك شبه اتفاق عام وإجمالي بأن للألوان تأثير على الحالة النفسية والمزاجية والسلوكية.

لقد لاحظنا أن الكثير من الثقافات القديمة كالمصريين والصينيين استخدموا الألوان في العلاج لحالات مرضية مستعصية ونجحوا لمستوى معين بطريقة (العلاج باستخدام الضوء) او (عِلم الألوان)، كاللون الأحمر مثلا، استخدموه لتحفيز  العقل والجسم والدورة الدموية.

النص

ــــــــ

نعود الآن لموضوع دراستنا وبحثنا، ونقرأ النص بتأنّي:

 

    صورةُ أبي

في صورته الأولى

كان(أبي) بُنِّيَّ اللونِ

في الثانيةِ

كانَ يميلُ إلى اللونِ الأصفر

في الثالثةِ

ثلجيّاً كــــــــــــــان

في الرابعةِ

اختلطَ اللونان

(الأزرق والأخضر)

في الخامسةِ

كانَ رمادياً

في السابعةِ

عندَ صلاةِ الوحشةِ

لاأدري

أيَّ الألوانِ أبي كـــــــانْ؟!

ــــــــــــــــــ

تداول الشاعر عبد الهادي عباس صورة أبيه، بمعنى انه أمام مشهد تصوري استلهم منه ماأوحى إليه، متدرجا بمراحله السبعة باستخدامه الفعل الماضي (كان) إشارة للماضي الذي استحضرته صورة أبيه.

جملة شعرية مكثفة ومقننة ومتقنه:

في صورته الأولى

فمن الوهلة الأولى يدرك السامع والقارىء ان هنالك صوراً اخرى لاحقة..

كانَ أبي

بنيّ اللون

استوحى الشاعر من صورة ابيه اللون البني المتسم بالدفء ومشاعر الأمان، فوسم الصورة بهذا اللون الذي اختزل العديد من المفردات والمعاني برمزية(اللون البني) ودلالته، فالوالد هو الأمان والدفء، وأن هذا (الأب) يمتلك صفة حيادية ذات طبيعة مسالمة،  وهنا لم يتوسع الشاعر في تفصيلات الحيادية والمسالمة، لكنه اتى برمزية اللون التي أغنت عن كل شرح وتفصيل وتأويل، فاللون البني لون الأرض الذي يشي بالسلاسة لكنه الطبيعة بالكامل.

جملة اسمية مكثفة تضمنت معاني واسعة ودلالات مخبوءة بين طيات الحروف استطاع بها الشاعر توظيف اللون بمهارة عالية وحرفنة واضحة ليفصح لنا عن نضوج تجربة ادبية بمراحلها الثلاث:

مرحلة المران والدربة والتجريب-مرحلة المقاربة والتقليد-مرحلة النضج والاستقرار، وهي المرحلة المعول عليها، فنجح بصهر تلك المراحل.

لقد أشرت في مقالتي النقدية والمنشورة على صفحتي عن مهارة الشاعر عبد الهادي عباس ومكنته البنيوية والفنية لإنتاج نص متكامل شكلا ومضمونا ولغةً وبلاغةً، ولو تيسر لي ديوانه قبل إصداري لكتابي النقدي قبل سنوات(الآلية النقدية في تداول النصوص الأدبية) لضمنت نماذح لهذا الشاعر القدير كي أعزز ماذهبت اليه في الفصل الخاص: أدب مابعد الحداثة.

هذا الكتاب ابتعدت فيه عن جميع النظريات النقدية الغربية الـسبعين، فجاء بآلية نقدية عربية خالصة، كون النظريات الغربية تظلم النص العربي ولاتنصفه، لأسباب عديدة.

نعود للنص..

يقول الشاعر:

في الثانيةِ

كان يميلُ إلى اللون الأصفر

نلاحظ كيفية بناء الجملة وهي(شبه جمل) من حرف جر وعدد، لكنها متماسكة ومتساوقة موسيقيا وبلاغيا وتسلسليا مع الجملة السابقة واللاحقة، هذا التناسق الهرمي لم يأت عن فراغ أبدا، ثم يقول:

كان يميل الى اللون الأصفر..

لازال يتكلم بزمن الماضي ولازال الفعل(كان) مهيمن على سردية النص،..

الانتقالة من اللون البني وماتثيره من دلالات، إلى اللون الأصفر الذي يشير للإيجابية  والسعادة والتفاؤل والطاقة  بذات الوقت، فالشاعر استغنى عن الإسهاب في درج صفات أبيه واختصرها برمزية اللون، وقد يتوهم البعض ان اللون الأصفر دالة الخمول أو المرض او...

هذه الانتقالات من شبه الجملة إلى جملة اسمية بماتضمنته الدلالة اللونية، تثير لدى التلقي الواعي او المحلل الحصيف أشياء ومعاني عديدة ضمن هذا النسق المتماهي سياقيا وبُنيةً، والمتماسك لغويا بما يستدعي التأمل كثيرا والوقوف مع كل جملة وماتضمنه من معاني واضحة ومؤجلة ومخبوءة، إضافة لجوهر الرسالة ومضمنونها المقدس وهو(الأب

 

 

 

                        (٣)

يستمر الشاعر في جمله المتعاقبة وبنفس النسق التراتبي وفق بنائية فنية مكثفة، قائلاً:

في الثالثةِ

ثلجيّاً كــــــــــــــــان

حيث بنى الفقرة من شبه جملة، واعقبها بجملة اسمية استخدم التقديم والتأخير، لأهمية اللون عنده ومايريد البوح من خلاله، فقدم خبر كان(ثلجياً) على الضمير (هو)اسم كان والمقصود (أبي).

نترك الآن موسيقى الجملة  ونذهب لتحليل اللون ومايعنيه، فاللون الثلجي مصدره الأساس الثلج، أي اللون الأبيض، ولون الثلج وبمرور الزمن وعملية الضغط، يتحول من الأبيض إلى اللون الأزرق، ولاحقا إلى اللون الفيروزي الجميل.

فالشاعر استعار هذا التحول بدلا عن عمر أبيه، هذه الإستعارة مدهشة بحق، فهل كان يقصدها، أم جاءت عفوية؟ الجواب، نعم يقصدها الشاعر، فهذا التدرج اللوني المتأتي من إيحاء الصورة،(صورة أبي) أُعدّ إعدادا متقنا وواعيا وجعله متساوقا والمراحل العمرية لأبيه، فاستثمر هذه المقابلة بطريقة الأنسنة للأشياء وجعلها تُفصح عن البريد او الرسائل المختزنة في ذات الشاعر وكنه أبيه من خلال الصورة والتي ربما هي معلقة على الجدار كما هي الحال في اغلب البيوتات العراقية وغير العراقية، لكن الشاعر استطاع استنطاقها وبث فيها الروح من جديد، جاعلا التلقي يشاركه العزف على هذا الوتر الحساس الجميل.

فالشاعر اختزل من خلال فلسفة الألوان سيلاً من المفردات والمعاني، ليقدم لنا مضمونا كأجمل وأعمق وأصدق مايكون.

ثم يأخذنا الشاعر في تلك الرحلة الاستكشافية قائلاً:

في الرابعةِ

اختلطَ اللونان

(الأزرق والأخضر)

هنا انتقالة عجيبة ومذهلة حقاً، وكلنا يعرف ان اللونين(الأزرق والأخضر) متساويا في الشدة او الموجة الضوئية، وكلاهما من الألوان الباردة،ويشيران للهدوء والاسترخاء، لكن المغزى والغاية من هذا الإختلاط، هو ولادة لون ثانوي مكملاً لهما..

فالشاعر اراد ان يقول: ان أبي الآن وفي هذه المرحلة مرتاح البال ومسترخ تماما بعد ان حقق رسالته الأبوية والإنسانية.

أما اللون الثانوي المتولد من هذا الاختلاط فقد اضمره الشاعر، مكتفيا بإعطاء الأولوية للون الأزرق ومايعنيه هذا اللون البهيج.

لم يتوقف الشاعر عند تلك المرحلة، فما زال يستشف من (صورة أبي) الكثير المثير، والذي يجعلنا في غاية الشوق وصولا للخاتمة.

فها هو يقول:

في الخامسةِ

كانَ رماديّاً

واعتقد انه اراد اخبارنا بحيادية أبيه بلمحة مميزة في تلك المرحلة(الخامسة) والتي قد تكون العقد الخامس من عمره.. والله اعلم.

نعود للون فهو محور بحثنا، فاللون الرمادي باستطاعته اكمال أي لون شريطة أن لايأخذ مساحةً اوسع من اللون المُضاف إليه، بمعنى آخر، أن لايفرض سلطته على بنيه باعتبار انهم  مؤهلون لمواجهة الحياة وشق طريقهم، لكنه بذات الوقت لاسيما بعد المتغير السياسي والمجتمعي، يقف ضد أي تغيير يبتعد عن الأسس والمعايير والتقاليد التي نشأ هو عليها وبنوه أيضا، حرصا منه على أن يرتبك البناء فيتعكر السكون والهدوء والطمأنينة، وهو بهذا لن يستبدل طبيعته إطلاقا خوفا على اختراق تلك الأسس التي وضعها طوال عمره.

وقد يعتبر البعض ان الرمادي مملٌ ورتيبّ ومحزنٌ، إلا انه ومن زاوية نظر أخرى، فهو أنيق ورسمي ومهيب.

بعد هذه الجملة يصدمنا الشاعر بانتقالته من الخامسة إلى السابعة دون ذكر السادسة كما تدرجنا معه من الأولى فالثانية فالثالثة.. الخ.

اعتقد ان الشاعر اضمر ماتشي به (السادسة) متعمدا، وذلك ليجبر التلقي أن يشترك معه في استكناه ذلك اللون الذي أخفاه، فبعد أن اخذنا عبر التدرجات اللونية والمراحلية، عرفنا الفلسفة التي بني النص عليها، فأبقى اللون السادس لغزا مُحيرا،

وقد يخطر في بال الباحث او القارىء مقولة عن العهد القديم وهي:(أن الله في اليوم السادس أتم الخلق وأشبع العالم ولم يعد ينقصه شيء)، وهذا أجمل مافي النص، وذلك حين يثير في التلقي مشاعره يحيله للبحث للإمساك بالمعاني المخبوءة  مما يخلق متعةً لاتضاهى حين يفك شفرات الجمل الشعرية والرموز وماتشي به الظاهر منها والمستور.

هذا الأسلوب يحسبُ للشاعر وطريقة اشتغاله في بُنية الجمل.

نعود الآن للجملة:

في السابعةِ

عند صلاة الوحشةِ

لاأدري

أيَّ الألوانِ أبي كــــــــــان؟!

هنا يقحمنا في الرقم(٧) الذي يشي بالكمال الروحي،..

فتعامل الشاعر  من خلال الرقم(٧)مع روح أبيه، دون أن يفصح عن الرحيل، الموت، الفراق... الخ من المفردات المتداوله، لكنه بذكاء عجيب رمز بالرقم (٧)وقرنها بـــــــ(صلاة الوحشة)، وكلنا يعرف بكيفيتها وعدد ركعاتها وأدعيتها وثوابها ولمن تقام.

بصراحة، لم يقع بين يدي نص كهذا النص العجيب والمبهر، اشتخدمت الألوان برمزية محنكة وعبقرية اختزل الشاعر كلمات وجمل ومعاني لاتُعد، ونجح في تقديم نص يمثل أدب مابعد الحداثة بامتياز، لغةً وتكثيفا وبلاغة وموسيقى واستعارة ورمزية.... الخ.

الرقم (٧)او (في السابعة) له حضور عجيب ومكانة بارزا في أعمال الله سبحانه وتعالى، فالبشر من صنع الله، وورد الرقم(٧)اكثر من أي رقم آخر، حيث بلغ ومضاعفاته وروداً(٢٨٧)مرة، وكلمة السابع وردت(٩٨)مرة، وكلمة سبعة اضعاف وردت(٧)مرات، ليكون الإجمالي (٣٩٢)مرة..

هذا مايخص الرقم(٧)او السابعة، اما خاتمة النص المقترنة بصلاة الوحشة، فقد خف بريق الصورة ولم يعد الشاعر يعرف أي الألوان  في صورة أبيه..

هذا التساؤل المنطقي، واللاأدرية، حقيقة دامغة، إلا من أتى الله بقلب سليم، فالله وحده يعلم مصائر العباد ومايزكيهم إلا ماعملوه في الحياة الدنيا مرضاة لله العزيز الحكيم.

لقد حلق الشاعر بدفق شعوري مهيب ولم تغب عن مخيلته الثوابت القيمية  والمثل العليا وهو يفصح عن كنه أبيه رحمه الله، فأطلق العنان للكامن سيكولوجيا وسيسيولوجيا اثبت أن المبدع الصادق وفي ادق المفاصل لن يكذبَ أبدا، بل كان مدركا لمهمة ابداعية ادبية رسالية، وحين اختار عتبة (الأب) يعي تماما حضور هذه الشخصية  في كل عائلة ومجتمع، وتوجد مشتركات عديدة، اسهمت في الدخول لعالم النص وبقوة.

لقد قدم الشاعر روحه وقلبه كمشروع ابداعي على ورق نبيل، وكأنه وضع جسده خدمة للتحليل والتشريح لأجل الفائدة العلمية والنفسية.

الخاتمة

ــــــــــ

أن مثل تلك النصوص المتقنة والمكثفة بانزياح مقنن، استحقت التأمل والوقوف عندها، ولابد من ان يتم تداولها بأكثر من دراسة ودراسة، لاسيما وانها تعبر عن معايير ماتم الإصطلاح عليه: أدب مابعد الحداثة..

اي العصر الذي نعيشه الآن.

 

    الناقد والشاعر

حسين علي عوفي البابلي

٦/نيسان/٢٠٢٥