قراءة نقدية أكاديمية في قصيدة الأديبة العراقية وفاء عبد الرزاق (رغبة في وطن)
15-04-2025
59
قراءة نقدية أكاديمية في قصيدة الأديبة العراقية وفاء عبد الرزاق (رغبة في وطن)
بقلم ..علاء الأديب
تعدّ وفاء عبد الرزاق من أبرز الأصوات الشعرية في المشهد الثقافي العراقي والعربي المعاصر. جمعت في نتاجها بين حساسية الشعر وجرأة السرد، فكتبت القصيدة والرواية والقصة، وتنوّعت في أساليبها بين التعبير الذاتي والرؤية القومية والإنسانية، كما اشتبكت نصوصها مع قضايا الوطن والمنفى والهوية، وهو ما أضفى على تجربتها غنىً فكريًا وشعوريًا واضحًا. تتميّز أعمالها عمومًا بطاقة لغوية عالية، وبنزوع تأملي يكشف عن رؤية كونية للعالم، حتى وهي تكتب عن جرح محلي.
واكثر ما شدّني من قصائدها الرائعة قصيدتها ( رغبة في وطن) لما لهذه القصيدة من تأثيرات على النفس التي طالما حلمت بالوطن الذي حلمت به الشاعرة.
رؤية عامة في القصيدة
................................
في قصيدتها "رغبة في وطن"، تكتب وفاء عبد الرزاق بضمير المتكلمة، منتقلة من الخاص إلى العام، ومن الرغبة الفردية إلى الحلم الجمعي. القصيدة قصيرة نسبيًا، لكنها مشبعة بالدلالات والانفعالات، وتكاد تكون صيحة مختزلة، تختزن في كلمات قليلة شحنة وجدانية هائلة، تعكس وجعًا شخصيًا يتقاطع مع المعاناة الجماعية. الوطن هنا ليس مكانًا جغرافيًا فقط، بل كناية عن الأمان، والحنو، والعدالة، والحق المسلوب.
تحليل المضمون والدلالات
...................................
منذ السطر الأول، تُعلن الشاعرة عن رغبتها:
"أريدُ وطناً
لا تأكلهُ الذئابُ
ولا يُصلبُ فيهِ الأنبياءُ"
الرغبة في وطن لا تنهشه الذئاب ولا تُرتكب فيه الخيانات والفظائع، تكشف عن نظرة سوداوية للواقع، لكنها في ذات الوقت تنبئ عن حلم طوباوي بوطن نظيف. وتستمر الشاعرة في تصوير هذا الوطن المثالي بأبعاده العاطفية والإنسانية:
"أريدهُ بسعةِ قلبِ أمي
كأحلامي
ونقاءِ ضحكةِ طفلٍ لم تطرقْهُ الحرب"
هنا تتشكّل صورة وطن حنون، أمومي، نقي، أقرب إلى رحم أو حضن لا إلى دولة. ويتعزز هذا التصور حين تقول:
"وطمأنينةِ نساءٍ لا يعرفنَ الدمعَ
وطنًا
لا يُدفنُ فيهِ الحبُّ
ولا تُجلدُ فيهِ الكلمةُ"
هذه الصور تُشير إلى قمع القيم والمشاعر، حيث يُقتل الحب وتُجلد الكلمة، في إشارة صريحة إلى القمع السياسي والاجتماعي، وإلى غربة الذات داخل وطنٍ لا يعترف بها.
البناء الدرامي في القصيدة
....................................
القصيدة مبنية على تصعيد درامي داخلي يُشبه مشهدًا مسرحيًا تراجيديًا:
1. التمهيد: عرض الأزمة (وطن مفترس، قمعي، خائن).
2. التصعيد: تقديم بديل حالم (الوطن كأم، كطفل، كطمأنينة).
3. الذروة: وطن يُقتل فيه الحب وتُقمع الكلمة.
4. الخاتمة: انهيار داخلي صامت في كلمة "فقط"، وكأن كل ذلك الحلم يتلاشى في حسرة واقعية.
هذا البناء يمنح القصيدة طاقة مشهدية متماسكة، تُحاكي القصيدة التمثيلية التي تقوم على مونولوج داخلي ينبثق من صراع نفسي واجتماعي.
الشعر بوصفه سردًا داخليًا: الميول الروائي في القصيدة
اللافت في هذه القصيدة هو انفتاحها على تقنيات السرد، وبروز ما يمكن تسميته بـ"الميول الروائي". فالشاعرة لا تكتفي بالتعبير عن فكرة مجرّدة، بل ترسم تطورًا شعوريًا واضحًا، يجعل الذات الشاعرة شبيهة بشخصية روائية تمرّ بتحول. تبدأ من أزمة، تبني حلمًا بديلاً، ثم تنكسر.
الصور المستخدمة ليست رموزًا غامضة بل مشاهد سردية صغيرة: قلب الأم، ضحكة الطفل، دمع النساء، جلْد الكلمة... وهذه المشاهد تخلق ما يشبه الخلفية الزمانية والمكانية لرواية مكثفة. كذلك تتجلّى الشخصية الساردة في "الأنا" المتكلمة، التي تقود القارئ عبر رحلة شعورية توازي مسارًا روائيًا داخليًا.
المحسنات البلاغية والانزياحات
..........................................
القصيدة مليئة بالاستعارات والانزياحات الذكية التي تخدم المعنى ولا تزيّنه فقط. "الذئاب" كناية عن رموز الافتراس السياسي، و"الأنبياء" رمز للصدق والخلاص الذين يُصلبون في مجتمعات القهر. كذلك تُوظّف الشاعرة نقل الصفات البشرية إلى المعاني، فتقول: "يُدفن فيه الحب" و"تُجلد الكلمة"، وفي هذا تجسيد وجداني للمفاهيم، يُضفي عليها طابعًا دراميًا وألمًا ملموسًا.
القصيدة أيضًا تميل إلى الاقتصاد اللغوي والانفعال المضغوط، ما يمنحها توترًا خاصًا، وتتيح لكل صورة أن تفتح تأويلاً شعوريًا منفتحًا، دون إسراف بلاغي.
خلاصة التحليل
.....................
إنّ قصيدة "رغبة في وطن" ليست مجرد تعبير وجداني عن الحنين والانتماء، بل هي بنية فنية متقنة تنطوي على وعي شعري عميق بمأزق الإنسان العربي المعاصر، وقدرته على تحويل هذا المأزق إلى لغة. فمن خلال صوتٍ داخليٍّ مشحون، استطاعت الشاعرة أن تُشيّد عالمًا شعريًا يحتشد بالتوتر، ويصوغ وجع الفقد والهزيمة بلغة تحفر في الطبقات النفسية والاجتماعية والسياسية للذات.
جاءت القصيدة محمّلة ببناء درامي صاعد، تتحوّل فيه الرغبة البسيطة إلى ملحمة شعورية، كما جاءت مشبعة بالمحسنات البلاغية التي لم تكن للتزيين، بل لتكثيف التجربة الوجودية في استعارات وانزياحات وصور موحية. وإلى جانب ذلك، اتضحت في القصيدة ميول سردية وروائية من خلال تطور الفكرة، وتدرّج الشعور، وبروز شخصية ناطقة تتكلم من قلب تجربة مؤلمة، تشبه بطلات الرواية المعذّبات.
وبهذا المعنى، تكشف وفاء عبد الرزاق عن شاعرة متعدّدة الطبقات، تكتب بلغة تمتزج فيها الشفافية بالعُمق، والتكثيف بالتصعيد، والحلم بالخذلان. قصيدتها ليست نداءً مجردًا من امرأة تبحث عن وطن، بل خطابٌ شعريٌّ مركّب، يقاوم الخراب بالكلمة، ويجعل من الشعر وسيلةً للحياة رغم العتمة.
اتمنى لاديبتنا السيدة وفاء عبد الرزاق البقاء بصحة وعافية وتالق دائن في كل محالات الحياة كنا عهدتها .