الغرائبية كفضاء للوجود والتحول في قصيدة "بيت الطين" للشاعرة وفاء عبد الرزاق
24-06-2025
35
الغرائبية كفضاء للوجود والتحول في قصيدة "بيت الطين" للشاعرة وفاء عبد الرزاق
بقلم: د. سليم داود الغزيل
تُشكل قصيدة (بيت الطين) للشاعرة وفاء عبد الرزاق نسيجًا شعريًا فريدًا يتجاوز حدود المألوف، ليُبحر في عوالم الغرائبية التي تتجلى في صورها وتراكيبها اللغوية ومفارقاتها الدلالية. هذه الغرائبية ليست مجرد تزيين لغوي، بل هي بنية أساسية تُسهم في كشف طبقات عميقة من الذات والعالم، وتدفع المتلقي إلى إعادة التفكير في مسلمات الواقع، مما يمنح النص بُعدًا فلسفيًا وسورياليًا يأسر الوجدان والفكر.
من خلال هذه القراءة سنحاول التركيز على بعض المفاهيم والحالات التي نجدها ذات مطلب نقدي
١- الغرائبية في تجسيد وجه الطين وتداخل الكائنات:
تبدأ القصيدة بصدمة غرائبية تتجسد في الصورة الافتتاحية: (وجهُكِ الكتومُ على الحائطِ / تسحّ ُ الجاراتُ من طينهِ).
هنا، يتحول الوجه البشري، رمز الهوية والتعابير، إلى مادة طينية ملتصقة بحائط، تُصبح مصدرًا للاستقاء للجارات. هذه ليست مجرد استعارة بسيطة، بل هي تحول جوهري يكسر المنطق المادي؛ فالوجه لا يُسقى، ولا يُصنع من الطين بهذا المعنى المباشر، ولا يمكن للجارات أن تسح منه. هذه الصورة تخلق شعورًا بالدهشة والانقلاب على الواقع، وتوحي بأن هذا الوجه يحمل قدسية ما، أو أنه تجسيد لذاكرة جماعية أو وجود أصيل ينبع منه الخير أو الحياة. إنها بداية تُعلن عن دخولنا إلى فضاء شعري تتشابك فيه الكائنات والأشياء بطرق غير مألوفة، حيث تختلط الأجساد بالمادة الجامدة، وتُمنح الجمادات خصائص حيوية.
يتعزز هذا التداخل الغرائبي في مقاطع لاحقة: ينقشُ عمرَهُ البذرُ / يتناقلُ اللُّقاحُ بجَفنِهِ. هنا، يُسند فعل النقش الذي يتطلب وعيًا وفاعلية، إلى البذر، ويُصبح الجفن، وهو جزء عضوي حساس، وسيطًا لـ تناقل اللقاح الذي يرتبط بالتكاثر النباتي. هذه الخلطات بين العضوي والنباتي، وبين الحيوي والجامد، تمنح القصيدة بُعدًا أسطوريًا، كما لو أن الكائنات كلها تتشارك في دورة حياة كونية تتجاوز التصنيفات البشرية.
2. غرائبية التحول السردي وتداخل الأزمنة:
تُقدم القصيدة مسارًا سرديًا متعرجًا يتناوب بين الواقعي والحلمي، وبين الذات والموضوع، مما يضاعف من إحساس الغرائبية. فـ وجهكِ عتبتانِ يُحول الوجه إلى بوابة عبور، و عمّ ُالفصولِ وشقيقُها يُضفي على الفصول القرابة الإنسانية. هذا التحول من الملموس إلى المجرد، ومن الوصف إلى التجسيد، يعزز من طبيعة القصيدة الغرائبية التي لا تلتزم بحدود واضحة.
التحول الأبرز يظهر في تجسيد الذات في صورة غير متوقعة: جرّدْني قصَبة ً/ نحو السَّماءِ اندفاعُها. هنا، تتخلى الشاعرة عن هيئتها البشرية لتصبح قصبة، وهي نبات نحيل ينمو طوليًا، مما يرمز إلى رغبة في التسامي والارتفاع نحو المطلق، لكن بطريقة غير تقليدية وغير متوقعة. هذا التحول الجسدي إلى نبات يعكس هشاشة الذات وقوتها في آن، ويعمق من بُعد القصيدة الغرائبي الذي يمزج بين الوجود الإنساني والوجود الطبيعي.
3. الحلم والكابوس كفضاءات للغرائبية:
تُوظف القصيدة فضاء الحلم والكابوس كأحد أهم محركات الغرائبية. في المقطع الذي تبدأ فيه بـ رأيتُه في المنام شهيَّ السُّؤال: / وجنتُكِ الحقلُ / لماذا حلبتِ ياسمينَها؟، نجد أن الحلم يُصبح مسرحًا للتساؤلات الوجودية والمفارقات الصادمة. فالوجنة التي هي حقل ياسمين، رمز الجمال والنقاء، تُصبح شيئًا يُحلب، وهذا الفعل الغريب يحمل دلالات عميقة عن استنزاف الجمال أو تبديده.
الرد على هذا السؤال يزيد من الغرائبية ويعمق من مأساوية التجربة: أمومة ُعمري مالحٌ صبرُها / لمْ أنتبه أنِّي أشربُ البحرَ / لم انتبه أنَّي أُرْضِعُ الريحَ لم انتبه أنَّ ابنتي جرعةٌ فاسدةٌ. هنا، تختلط الحقائق الوجودية (الأمومة الصعبة) بالصور الغرائبية (شرب البحر، إرضاع الريح، الابنة كجرعة فاسدة). هذه التجسيدات غير المنطقية للواقع النفسي والعاطفي تحول الألم والمعاناة إلى صور مجازية صادمة، تُسقط المعنى الحرفي لتسمح بتأويلات متعددة حول مرارة التجربة، وتُعلي من شأن الغرائبية كأداة للتعبير عن اللاوعي والعمق النفسي.
4. غرائبية الهوية والانفلات من القيود:
تُقدم القصيدة ذاتًا تسعى جاهدة لتحديد هويتها في عالم مضطرب، ولكنها تفعل ذلك بطرق غرائبية. عبارة لم انتبه أنِّي امرأة ُالظلامِ / وسُمرتي قفلُ الخطى تُبرز إحساسًا بالذات الغريبة، التي تحمل صفات متناقضة أو قيودًا ذاتية. فـ امرأة الظلام قد توحي بالغموض أو الانطواء، و سمرتي قفل الخطى تُجسد فكرة أن الهوية نفسها قد تُصبح قيدًا يمنع الحركة أو التقدم. هذه التصويرات الغرائبية تكسر الصورة النمطية للذات، وتُظهرها ككيان معقد ومتعدد الأوجه.
كما أن العلاقة الغرائبية مع الباب الذي لم تنم غابته تعكس بحثًا مستمرًا عن الخلاص أو التواصل، ولكن هذا الباب ليس مجرد مدخل، بل هو غابة حية لا تنام، مما يضيف بعدًا سحريًا وغامضًا على الفعل البسيط لطرق الباب.
5. غرائبية النهايات والخلود غير المألوف:
تُختتم القصيدة بصور تكسر المفهوم التقليدي للموت والفناء، لتُدخلنا في فضاء غرائبي للخلود والتجدد. فـ(بيت الطين) / يا أنا في الصَّفعاتِ ومذاقِ العصا يُعيدنا إلى مركز القصيدة، حيث يُصبح البيت تجسيدًا للذات التي عانت وتشوهت. لكن التحول الأخير يأتي في تصوير القبر: وضريحي وردة ٌ/ لا يُدفنُ القرنفلُ / قبري زجاجة ُعُطرٍ / تقطّرُ ماءكَ وتختمرْ .
هنا، يختفي مفهوم القبر كمكان للفناء المطلق ليحل محله مفهوم القبر كـوردة لا تُدفن، أو كـزجاجة عطر تتقطر وتختمر. هذه صور غرائبية بامتياز؛ فالقبر لا يمكن أن يكون زجاجة عطر تفرز السوائل، ولا يمكن أن يكون وردة بالمعنى الحرفي. لكنها على المستوى المجازي، تُحوّل الموت إلى عملية حياة وتجدد، وإلى مصدر للجمال والجوهر الذي لا يفنى. هذه النهاية الغرائبية تُشير إلى أن الوجود، حتى بعد الانتهاء، يستمر في شكل آخر، يُقدم جوهرًا لا يُمسّ، مما يضفي على القصيدة بُعدًا ميتافيزيقيًا عميقًا.
ختاما
إن الشاعرة، من خلال صورها الصادمة ومفارقاتها الدلالية، تُقدم لنا رؤية كونية تتجاوز الحدود التقليدية بين المادي والروحي، بين العضوي والجامد، وبين الفناء والبقاء. فـ بيت الطين ليس مجرد منزل، بل هو استعارة عميقة للذات المتشظية والمتجددة، التي تحمل في طياتها مرارة التجربة الإنسانية وقدرتها على التسامي. بهذا، تنجح القصيدة في ترسيخ الغرائبية ليس فقط كسمة أسلوبية، بل كفلسفة وجودية تُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والكون، وتُؤكد على أن الحقيقة غالبًا ما تكمن في ما هو غير متوقع وغير مألوف، ما يُبقي النص حيًا وغنيًا بالتأويلات في كل قراءة جديدة. ولذلك امكننا القول ان القصيدة هي عمل شعري جرئ يبحر في اعماق التجربة الانسانية الغامضة .